[
color=darkred]سحر العيون (4)
مشيت في شوارع دمشق لأكثر من ثلاث ساعات متواصلة ...
من الجمارك ... إلى ساحة الأمويين ... إلى أبو رمانة ... ثم أعرج إلى شارع الحمراء...
أمشي على غير هداً .. أستعيد توازني .. أسترجع ذاتي .. أبحث عن هــالـــــة ..
هــالــــة .... ما الذي جرى لك يا هــالــة .. أين شخصيتك .. أين قوتك .. أين أنت ..
بأي حالة سأعود للبيت .. بأي وجه سأواجه أمي ..
أمي التي لا يخفى عليها شيء مني ...
فمن نظرة واحدة .. تستطيع أن تعرف نشرتي النفسية.. و الصحية و حتى العاطفية.
قررت أن أذهب مشياً إلى البيت .. أصل لساحة الميسات تنهار قواي على المشي ..
أركب بسيارة أجرة تقلني إلى البيت ..
دقيقتين و أنا أمام منزلنا ..
أدخل البيت بحذر متصنعة الوضع الطبيعي لطريقة دخولي اليومي له ..
من حسن حظي أن أمي لم تكن بالبيت .. حتى لا تقطف أول نظرة من وجهي ..
و أدخل في سؤال و جواب ...
( ماذا أكلت و ماذا شربت و ما هي أحداث اليوم ...)
دخلت غرفتي .. أضأت النور .. وضعت أشيائي على طاولة المكتب ..
و نظرت في المرآة ...أتفحص ملامحي .. تفاصيل وجهي .. هل هناك شيء تغير ؟
دققت النظر إلى عيوني .. ... ...
...... انفجرت بالبكاء .....
ارتميت على سريري و صرت أبكي ...
بكيت و بكيت ... حتى نمت ...
* * *
أيقظتني رنة الجوال .... أفتح الخط .. يأتيني صوت سلمى بلهجته الشامية المعتقة والمفعم بالحيوية والنشاط ...
_ وينك إنتي وينك ؟ ..معقولي إنتي ؟؟!!.. في وحدي بتعمل عملتك ؟
تفاجئني أسألتها .. ترى هل عرفت كل شيء ... يأتي صوتها من جديد ..
_ ولك مع مين عم احكي ...؟ .. هالة ..
_ ليش شو ساويت ..؟
_ شو ساويتي ..؟ وين تركتي مساطرك و أوراقك .. و مسودة المشروع يا هبلى ..؟
حدى بيعمل عملتك .. ؟؟؟!!!!
_ يا الله نسيتهن بالمرسم ...
_ و الله انتي مو طبيعيي .. و في موال براسك .. بعدين حدى بيغيب عن العملي مواد بناء .. الحضور عليه علامات يا مجنوني ...
_ و الله كنت تعباني شوي و داقت الدنيا فيي و مو جاي عا بالي إحضر شي ..
_ ريتني بحضر عرسك .. قولي آمين .. أغراضك معي عيني ...
_ معليش سلمى عذبتك معي موهيك ..
_ شو بدي أعمل مضطرة إتحمل جنانك .. بعدين في شخص سأل عنك اليوم ..
أنتفض ... أصلح من جلستي .. يعود النشاط لجسدي ..
_ شخص .. ؟ مين هالشخص ؟
_ ولك هاد الشب اللي قال حامل مادة نظريات العمارة .. هوي سنة رابعة ..
بس و الله إنو شب مرتب و مهذب .. أنا بعرفو بشكل سطحي يعني في مرحبا بيناتنا
و اللي بعرفو عنو إنو دغري و ما بحب اللف و الدوران و انو محترم كتير ..
_ إي وإنتي شو عرفك بكل هالتفاصيل ...
( قلت ذلك بنبرة فيها شيء من غيرة البنات ).
_ أيوه ..!! ممم ..... يا ستي من رفيقتي علا معو بالدفعة ...
و بعدين هاد الشب ما كان إلو علاقات سابقة مع البنات لا مشبوهة و لا غير
مشبوهة .. و هذا الطبع اللي فيه ملفت للنظر ..
بكل الأحوال سأل عنك و قال بدو يطلب منك ملخصات المحضرات اللي إنتي
بتكتبيها مع الدكتور ..
_ طيب .. طيب ..
أغلق الخط مع سلمى بعد أن قدمت لي نشرة الأخبار الجامعية بكل تفاصيلها ..
أستلقي على سريري من جديد ..
يبدأ مسلسل التحليل النفسي لشخصية هذا الرجل من خلال المعلومات الجديدة والتي أفادت بها سلمى ...
ليس له علاقات مع الجنس الآخر ..رجل ملتزم أم متزمت أم ...
فما هي الدوافع إذن ..؟ و ما هي الأسباب البعيدة و القريبة ..؟ ما هي المبررات ..؟
ما هي الاحتمالات ..؟ ما هي النتائج المتوقعة و الغير متوقعة ..؟
وضعت كل الاحتمالات الممكنة و حضرت كل ردود الفعل المناسبة ..
حتى أنني جهزت الكلمات و العبارات و الإجابات التي سأرد بها عليه في حال سألني أي سؤال ..
لم يبقى سوى أن أقوم بحفظ المحاضرات حتى أجيبه عن أسألته في المادة التي يريد أن يأخذ دفتري من أجلها ..
أتذكر ..
دفتري ..؟
أقوم بسرعة و أبحث عنه ..
( مخافة أن أكون قد نسيته في مكان ما كما حصل معي اليوم !!!!) .
إنه هنا على الطاولة .. أحمله و أضمه و أقبله ..
هذا إذن سفيري الذي سيعبر عن شخصيتي ..
أتصفح الدفتر كما كانت أمي تفتش في دفاترنا المدرسية مؤكدة على الترتيب و الأناقة .. وكانت تقول دائماً ..
" أهم شيء يكون دفترك مرتب الدفتر مرآة الطالب".
تقع عيني على بعض العبارات المشطوبة و بعض الكلمات الغير واضحة من السرعة في الكتابة ..
لا هذا الدفتر لا يصلح لأن يكون أول سفير لي عنده .
( يا لحماقة البنوتات ).
لا بد أن أقوم بنقل هذه الحاضرات على دفتر جديد يليق بلقب سفير ..
الآن سأبدأ بعملية النقل ... بعملية تجهيز أول سفير لـ هالة ...
حسناً سأشتري دفتراً جديداً .. و باذن الله لن يطلع الفجر حتى يكون العريس أقصد الدفتر جاهز ..
أنظر إلى الساعة .. لقد قاربت التاسعة و النصف ..
لا مشكلة .. المكتبة التي أريد أن أشتري الدفتر من
ها قريبة من المنزل ..
ألبس ملابسي على عجل و أخرج من غرفتي مسرعة ..
أقابل أمي في الصالون ..
_ بسم الله الرحمن الرحيم لوين يا ماما ؟ شو صاير معك ؟
_ مسا الخير ماما .. تأخرتي عند عمتي مو هيك ..
_ إلى زمان هون بس ما حبيت إزعجك .. شو شكلك أكلتي مع رفقاتك مو هيك .؟ ..
أتذكر حينها أنني لم آكل ..
_ آه ... إي ماما .. إي ..
_ وين رايحة بهاد الوقت ..
_ ماما هون براس الحارة في مكتبة بدي جيب دفتر و برجع ..
أقنعت أمي بضرورة الدفتر الليلة .. و بعدم مرافقتي للمكتبة ..
اشتريت من المكتبة .. دفتراً .. لو رآه نزار قباني لنسي كل النساء و لقال فيه أجمل قصيدة غزل في تاريخه .
دفتراً .. لو كنت في غير هذا الوضع لجعلته مع تحف أمي في الصالون ..
فرحت كثيراً لعثوري على شيء مميز ..
يكون سفيراً مميزاً عند شخص ( مميز ..!!!)
عدت للبيت مخفية الدفتر عن أمي لتجنب التساؤلات ..
تناولت بضع لقيمات من العشاء .. و أسرعت لغرفتي .. ( لأنفرد به ) ..
و بدأت بترتيب المحاضرات و تمييز العناوين بالألوان الزاهية ..
أكتب على الدفتر بشغف من تكتب مكتوباً لحبيبها ..
بدقة من يكتب معاهدة للسلام في الشرق الأوسط ..
بأناقة من تزين عروساً في ليلة زفافها..
طالت المحاضرات و طالت عمليات الماكياج التي أقوم بها لمادة علمية أنا بالأصل أكرهها ..
( بس معليش .. كلو بهون لنظرة عيون )
أنهيت الدفتر بعد الفجر بنصف ساعة ..
لم يبقى سوى أن أرش عليه بعض العطر و أضع له طرحة حتى يصبح عروساً متكاملة ..
ضحكت من هذه الفكرة ..
و وضعته في حقيبتي زيادة في الآمان من النسيان ..
شعرت بالارتياح لما أنجزته ... صليت الفجر ..
ثم وضعت رأسي على مخدتي ... وذهبت في سبات عميق ........
نعم سبات .. فهو لم يكن نوماً عادياً .. لم تعد لي الحياة إلا على صراخ أمي ..
_ قومي .. صارت الساعة 11 شو ما عندك دوام اليوم ..؟
أرفع رأسي .. و أشعر بثقل كبير في رأسي يشدني للأسفل ..
أتذكر الدفتر.. فأشعر بكمية كبيرة من الطاقة سرت في جسدي ..
أقوم مسرعة لأحضر نفسي للذهاب إلى الجامعة ...
الوقت يداهمني .. يجب أن أصل للجامعة قبل الثانية عشرة بربع ساعة ..
عشرة دقائق ..
خمسة دقائق على الأقل ..
أدخل الكلية الساعة الثانية عشر و دقيقتين ...
أتساءل أين سأتوجه ... إلى قاعتي ؟ .. أم أنه يجب أن يراني ؟ ..
يجب أن يراني و لكن كيف ..؟ الطلاب كلهم دخلوا قاعاتهم ..
حسناً سأقوم بالمسير قرب مراسم السنة الرابعة .. فلا بد أن يراني ..
أصعد الدرج متجهة نحو المراسم .. وكلي أمل أن يراني هو ..
و أن لا يراني أحد من زملائي فيغير لي طريقي الغير منطقي للوصول للقاعة ..
أمشي قرب المراسم بسرعة متوسطة .. عسى أن يلمحني ..
ألتفت إلى المرسم لفتة سريعة على أمل أن ألمح وجهه .. ولكنني لفرط توتري لا أرى شيئاً ..
أعود مسرعة لقاعتي من طريق آخر فمن غير المعقول و اللائق أن أعود من نفس الطريق ..
أدخل القاعة متأخرة عشر دقائق ..
يرمقني المدرس بنظرة عدم رضى مشيراً إلى تأخري بالدخول ..
أدخل و أجلس قرب سلمى ..
تشير إليَ .. مستفسرة عن سبب تأخري ..
أهز برأسي .. و أقول بصوت خافت .. ( بعدين بقلك ..)
دكتور المادة يشرح عن المادة ..
و أنا أسرح في احتمالات رؤيته لي ..
ترى هل لمحني ..
أم أنه لم يراني ..
و لكنه يجب أن يراني .. و يأتي لمقابلتي ... و إلا فلا معنى لسهري ليلة الأمس ..
ولا معنى لكل هذا الدفتر ..
و لكن ماذا لو لم يأتي اليوم إلى الجامعة بالأصل ..
فكرة تريحني .. و فكرة تزعجني ..
حتى يأتي صوت سلمى الخافت ..
_ على فكرة الشب اللي سأل عنك مبارح .. سأل عنك اليوم ..
( سطل ماء ورد يثلج صدري ..)
_ عن جد .. وين هوي هلق
_ شو بعرفني ؟ ... بس قال بيحاول يرجع بعد المحاضرة ...
قالت سلمى هذه الكلمات التي جعلت لقلبي أجنحة يحلق بها في سماء دمشق ..
إذن هو موجود في الجامعة .. وسأقابله ..
سأكون قوية متماسكة .. سأكون واثقة من نفسي .. سأعبر عن شخصيتي الحقيقية ..
فأنا هالة .. الكل يعرفني بقوة شخصيتي .
لن أتلعثم .. لن أضعف .. لن أهرب ..لن تربكني نظراته . .
أستنفر كل الطاقات الكامنة في نفسي و أستعيد جميع انتصاراتي الشخصية لأرفع من معنوياتي ..
حتى لا أضعف أمامه و أتصرف بغباء الأنثى ..
أشعر بأنني أصبحت قوية .. و سأتصرف بشكل طبيعي ..
كأي طالبة يطلب منها زميل لها أحد الدفاتر أو المحاضرات ..
تنتهي المحاضرة ..
تستوقفني سلمى داخل القاعة .. تريد معرفة أسباب ( الخربطة ) اللتي أنا فيها ..
أقنعها بضرورة الذهاب إلى الندوة لأن الأمر يحتاج إلى جلسة مطولة و أنني جائعة .
أحمل حقيبتي و بداخلها دفتري المنتظر تعينه كأول سفير لي ..
أنظر إلى باب القاعة ......................
و إذا به يدخل باتجاهنا أنا و سلمى ..
تبدأ دقات قلبي بالتسارع ..
ينخفض معدل الذكاء ... وترتفع نسبة الغباء .. مع كل خطوة يقترب فيها مني ..
_ السلام عليكم ..
_ وعليكم السلام .. ( نرد معاً أنا و سلمى ) ..
_ كيفك هالة ..
أسمع سؤاله وعيني على سلمى التي بدأت تبتسم ابتسامة شماتة بارتباكي الغير مبرر
_ الحمد لله ...
و يسود صمت بيننا نحن الثلاثة .. يقطعه استئذان سلمى ..
و أبقى وحيدة معه ...
تغادرني سلمى ليحل مكانها ..
تلعثمي ..
و ضعفي ..
و ارتباكي أمامه ..
و أشعر برغبة في الهرب ..
ولكن ... لا ... لا ... لن أهرب ...
لن أهرب هذه المرة ...
................... يتبع .......................
[/color]